فصل: قال أبو حيان في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذلك ما انتزعه السهيلي في الروض الأنف في فصل تأسيس مسجدِ قباء إذ قال: وفي قوله سبحانه: {من أول يوم} (وقد علم أنه ليس أولَ الأيام كلها ولا أضافَه إلى شيء في اللفظ الظاهر فيه) من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عَام الهجرة لأنه الوقت الذي عز فيه الإسلام وأمِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوافق هذا ظاهر التنزيل.
وجملة: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} ثناء على مؤمني الأنصار الذين يصلون بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسجد قباء.
وجاء الضمير مفردًا مراعاة للفظ {مَسجد} الذي هو جنس، كالإفراد في قوله تعالى: {وتؤمنون بالكتاب كله} [آل عمران: 119].
وفيه تعريض بأن أهل مسجد الضرار ليسوا كذلك.
وقد كان المؤمنون من الأنصار يجمعون بين الاستجمار بالأحجار والغسل بالماء كما دل عليه حديث رواه الدارقطني عن أبي أيوب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} فقال: «يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرًا في الطُهور فما طُهوركم؟» قالوا: إنَّ أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء.
قال: «هو ذلك فعليكموه»، فهذا يعم الأنصار كلهم.
ولا يعارضه حديث أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء عن طهارتهم لأن أهل قباء هم أيضًا من الأنصار، فسؤاله إياهم لتحقق اطراد هذا التطهر في قبائل الأنصار.
وأطلقت المحبة في قوله: {يحبون} كناية عن عمل الشيء المحبوب لأن الذي يحب شيئًا ممكنًا يعمله لا محالة.
فقصد التنويه بهم بأنهم يتطهرون تقربًا إلى الله بالطهارة وإرضاء لمحبة نفوسهم إياها، بحيث صارت الطهارة خُلقًا لهم فلو لم تجب عليهم لفعلوها من تلقاء أنفسهم.
وجملة: {والله يحب المطهرين} تذييل.
وفيه إشارة إلى أن نفوسهم وافقت خلقًا يحبه الله تعالى.
وكفى بذلك تنويهًا بزكاء أنفسهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}
فهل قول الحق: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} معناه ألأن يظل المسجد قائما ولا تقام فيه صلاة؟ هل {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} صيغتها النهي، أي لا تُصَلِّ فيه، أم أنها إخبار من الحق بأنك لن تقيم فيه صلاة أبدًا؛ لأنه لن يكون له وجود؟
إن قول الحق سبحانه يعني أن هذا المسجد يجب ألا يكون له وجود، ثم تجد الله سبحانه يقول: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} إذن: فالمسألة ليست في بناء المسجد، ولكنها فيمن يدخل المسجد ويعمره، فهنا مسجد، وهناك مسجد، أما المسجد الأول فقد أسس على التقوى، وفيه أناس يحبون أن يتطهروا، أما مسجد الضرار فقد أقامه منافقون يحبّون أن يتقذروا؛ لأنهم المقابل لمن يحبون أن يتطهروا.
ومعنى الحب هو ميل الطبع إلى شيء تنبسط له النفس وتخفُّ لعمله.
وحينما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم هذا؟» قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهل مع ذلك من غيره؟».
وهنا قال أهل قباء: لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء، وكان الواحد منهم يمسك الحجر ويمسح به محل قضاء الحاجة؛ فيخفف من استخدام المياه؛ لأن المياه كانت قليلة عندهم، ثم يستخدم الماء بعد الأحجار ليكمل ويتم نظافته، وأضافوا: ولا نبيت على جنابة، ولا نُصرّ على ذنب، فإن غلبنا الذنب تعجّلنا التوبة.
{يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} والحب هنا متبادل، فلا شيء أقسى على النفس من أن يكون الحب من طرف واحد، وهذا هو الشقاء بعينه. والشاعر يقول:
أنتَ الحبِيبُ ولَكنِّي أعُوذُ بِكَ ** مِنْ أنْ أكُونَ حَبِيبًا غَيْرَ مَحْبُوبِ

وشقاء المحبين أن يكون الحب من جانب واحد، أما حين يكون الحب متبادلًا من الحانبين فهو قمة الإيعاد والإبعاد، فحين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإسعاد، وكذلك حين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإيعاد والإبعاد، فحين تكون العداوة من جانب واحد، تنتهي بسرعة، لكن عندما تكون من الجانبين فإنها لا تنتهي بل تزداد اشتعالًا.
إذن: فحين يكون الحب متبادلًا تجد المحب كلما رأى حبًّا من حبيبه رد عليه بحب، فينمو الحب ويزداد، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان حب القلوب فيما لا يتغير وهو الحب في الله، فإذا رأيت حبًّا بين اثنين يتناقص بمرور الزمن؛ فاعلم أنه حب لغير الله، وإن رأيت الحب ينمو كل يوم، فاعلم أنه حب في الله.
والحق سبحانه يقول في قصة فرعون وموسى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا...} [القصص: 8].
هم لم يلتقطوه ليكون عدوًا لهم؛ فهذا الاحتمال لو كان قد جاء في بال آل فرعون لقتلوه، ولكنهم التقطوه ليكون قرة عين لهم، فانظر كيف يدخل الله على تغفيل الكافرين به، فآل فرعون هم من يربون موسى؛ ولذلك قال له فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18].
ولكن موسىعليه السلام لا يجامل في الحق؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو من ربّاه، أما تربية فرعون فلم يكن لها اعتبار في ميزان الحق، وقد تكون العداوة هينة لو كانت من جانب موسى وحده، ولكن شاء سبحانه ألا تكون العداوة من جانب موسى فقط، بل من جانب فرعون أيضًا، فيقول سبحانه: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ...} [طه: 39].
ويقول سبحانه في مجال الحب المتبادل: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...} [المائدة: 54].
فحين يحبون الله يرد سبحانه على تحية الحب بحب زائد، وهم يردون على تحية الحب منه سبحانه بحب زائد، وهكذا تتوالى زيادات وزيادات؛ حتى نصل إلى قمة الحب، ولكن الحب عند الله لا نهاية له، وأنت حين تقرأ قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى...} [النمل: 59].
ويقول سبحانه أيضًا: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ...} [الأحزاب: 44].
لم يأت سبحانه هنا بال التعريفية؛ لأنها لو جاءت لانحصرت السلام في لون واحد. فأنت حين تقول: لَقيت الرجل، فأنت تحدد الرجل. لكنك إنْ قلت: لقيت رجلًا. فقد يكون الرجل هذا أو ذاك أو غيرهما. فإن جاء الاسم نكرة صار شائعًا، أما إن كان بالتعريف فيكون محددًا.
والحق حين تكلم عن يحيى عليه السلام قال: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا} [مريم: 15].
لأنه يريد أن يكثر السلام. وحين تكلم عيسى عليه السلام عن نفسه قال: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33].
وحين يلقاك إنسان فهو يقول لك: سلام عليكم، وأنت ترد: وعليكم السلام، لماذا؟ لأن سلام عليكم معناها أن السلام منى يكون عليك وعلى غيرك، أما ردُّك وعليكم السلام فيعني أنك خَصَصْته بهذا السلام.
وهنا الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها زادت في التحية حيث يقول الحق سبحانه: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} وهذا لأن الذي يحب أن يكون طاهرًا دائمًا، قد أنس بفيوضات الله عليه، وما دامت ذراته كلها طاهرة من النجاسات المعنوية ومن النجاسات الحسية يصبح جهاز استقبال الفيوضات من الله عنده صالحًا دائمًا للاستقبال، والحق سبحانه وتعالى يرسل إمداداته في كل لحظة، ولا تنتهي إمداداته على الخلق أبدًا، وسبحانه يصف نفسه بأنه القيوم فاطمئنوا أنتم، فإن كنتم تريدون أن تناموا فناموا؛ فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.
إذن: فقد جاء الإيمان ليريحنا إلا ليتعبنا، كما أنه سبحانه يصف نفسه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...} [المائدة: 64].
أي: يطمئن الخلق أنهم بمجرد إيمانهم ستأتيهم إمدادات الله وفيوضاته المعنوية والمادية. فصحِّح جهاز استقبالك؛ بألا توجد فيه نجاسة حسيّة أو نجاسة معنوية؛ ولذلك إذا رأيت إنسانًا عنده فيوضات من الحق فاعلم أن ذرات جسمه مبنية من حلال، ولا توجد به قذارة معنوية، ولا قذارة حسّية، ويتضح ذلك كله على ملامح وجهه، وكلماته، وحسن استقباله. وإن كان أسمر اللون فتجده يأسرك ويخطف قلبك بنورانيته. وقد تجد إنسانًا أبيض اللون لكن ليس في وجهه نور؛ لأن فيوضات ربنا غير متجلية عليه.
وكيف تأتي الفيوضات؟ إنها تأتي بتنقية النفس؛ لأن الإنسان إن افتقر إلى الفيوضات الربانية، فعليه أن يبحث في جهازه الاستقبالي. وأضرب هنا مثلًا بالإرسال الإذاعي، فمحطات الإذاعة ترسل، ومن يملك جهاو استقبال سليم فهو يلتقط البث الإذاعي، أما إن كان جهاز الاستقبال فاسدًا فهذا لا يعني أن محطات الإذاعة لا تبث برامجها.
ولذلك قال الحق: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ...} [المائدة: 64].
فاحرص دائمًا على أن تتناول من يد ربك المدد الذي لا ينتهي، والحديث الشريف يقول: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».
والليل قد ينتهي عند إنسان، ويبدأ عند إنسان آخر، وهكذا النهار، فالليل مستمر دائمًا والنهار مستمر دائمًا، فيداه سبحانه مبسوطتان دائما ولا تنقبضان أبدًا. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيتين:

{والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا كفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل}
لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالًا وأفعالًا ذكر أنّ منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعًا للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر، وسموه مسجدًا.
ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء وصلى فيه ودعا لهم، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف، وبنو سالم بن عوف، وحرضهم أبو عمرو الفاسق على بنائه حين نزل الشام هاربًا من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال: ابنوا لي مسجدًا فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمدًا وأصحابه، فبنوه إلى مسجد قباء، وكانوا اثنى عشر رجلًا من المنافقين: خذام بن خالد.
ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحرث، وعباد بن حنيف، ونجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وأبو حنيفة الأزهر، وبخرج بن عمرو، ورجل من بني ضبيعة، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجد لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، وتدعوا لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم: «إني على جناح سفر وحال وشغل، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه» وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلامًا قارئًا للقرآن حسن الصوت، وهو ممن حسن إسلامه، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذي أوانٍ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا مالك بن الدخشم ومعنًا وعاصمًا ابني عدي.
وقيل: بعث عمار بن ياسر ووحشيًا قاتل حمزة بهدمه وتحريقه، فهدم وحرق بنار في سعف، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة.
وقال ابن جريج: صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق.
وقرأ أهل المدينة: نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: الذين بغير واو، كذا هي في مصاحف المدينة والشام، فاحتمل أن يكون بدلًا من قوله: {وآخرون مرجون}، وأن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، وأن يكون مبتدأ.
وقال الكسائي: الخبر لا تقم فيه أبدًا.
قال ابن عطية: ويتجه بإضمار إما في أول الآية، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم.
وقال النحاس والحوفي: الخبر لا يزال بنيانهم.
وقال المهدوي: الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه.
وقرأ جمهور القراء: والذين بالواو وعطفًا على وآخرون أي: ومنهم الذين اتخذوا، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ.